2 min read

في رحاب المصطفى ..

في رحاب المصطفى ..
Photo by Sam Riz / Unsplash

عانيتُ مؤخراً من حُبسة الكاتب حتى ظننتُ أن منابع الإلهام قد جفت، ومعاناة كهذه تقضُّ مضجع الكاتب، لأنه يجدُ في نفسه وجداً للكتابة، ومشاعر وتعابير لا يجدُ لها مخرجاً، وهذا جزء من عذابات من ذاق طعم الحرف والكلمة. مالبثتُ في الحُبسة حتى تقررت رحلةً لي مع بعض الزملاء إلى مدينة رسول الله ﷺ، وقد طال بنا العهد.. وأثقلنا الشوق إلى رحاب المصطفى وجواره..

انطلقت الرحلة في صباح يوم الأربعاء معلنةً عن مسير طويل يمتدُّ إلى ١٣ ساعة برّاً، ولكنهُ تعب لذيذ! ونصب ممتع، إذ أننا موعودون بـ الصلاة في مسجد رسول الله ﷺ، والمكث جواره أياماً فيها من المُتع والروحانية والصفاء مالا تجدها في غير ذلك الموضع، وكيف لا وجسد رسول الله ﷺ وأنفاسه وخطواته وزفراته وحركاته قد تجوّلت وملأت هذا الجو، وكيف لا والعلم والعلماء يملأون جنبات مسجده ﷺ فما بين حلقة للقرآن ومجلسٍ فيه قال الله وقال رسوله، وصائم وقائم، وفيهِ روضة من رياض الجنة تُشدُّ إليها الرحال..

امتدَّ الطريق، حتى وصلنا إلى الطريق ما بين جدة والمدينة المنورة، حتى بدأت تغشاني هالة من تلك الهالات التي كانت تطوف بي أيام دراسة سيرته، وبدأت استرد ما تخرّق من الذاكرة في سيرته، حتى وصلتُ إلى هجرته إلى المدينة. وأقولها هنا لكل دارس في سيرته ﷺ أنك لن تبكي فيها -وإن كانت رحلة دعوته مليئة بالمعاناة والمصاعب- إلا في موضعين مؤكدة عند وفاته وعند هجرته ﷺ، أما وفاته فكيف لا تبكي منها، وقد عشتَ معهُ مراحل الدعوة منذُ نزول الوحي! وأما هجرته وأن كانت في طياتها الخير العميم، إذ بها قَويَ الإسلام وعظُمت شوكته وتوسع في الآفاق، إلا أن فيها حُزناً "لا تحزن إن الله معنا" وكيف لا نحزن ورسول الله ﷺ يغادر موطنه، الذي يقول فيه "ما أطيبكِ من بلد وأحبَّكِ إلىَّ" وهو مُطارَد، ويصلُ الطلبُ إلى الغار الذي مكث فيهِ ثلاث ليالٍ مع صاحبه أبوبكر رضي الله عنه.

في الطريق، تشعرُ بهِ ﷺ وهو يقرأ القرآن وأبوبكر يحرصه من أمام تارةً ومن خلف تارةً. في الطريق، تشعرُ بالغربةِ إذ كان يسيرُ ليلاً ويرتاح نهاراً ﷺ، ثم ما إن تصِل إلى خيمةِ أمِّ مَعْبَد لتراها وهي تنظر إلى رسول الله ﷺ لتصفهُ وصفاً لم يبلغه الواصفون قطّ ولا تتوقف في هذا حتى تؤجج في قلبك أبيات الدغيم قائلاً:

يا أمَّ معبد ليت قلبي خيمةٌ
لتدوسهُ بنعالها النزلاء ..

لتكمل الرحلة بعدها، الشاة الهزيلة قد اجتمع اللبن في ضرعها حتى سقت الجميع، المسافرون، وأهل البيت! وتبقى أم معبد في التاريخ واصفةً وساقية للرسول ومن معه..

وصلنا إلى المدينة، طاب اللقاء والتقى المشتاق بشوقه، حتى سكنت النفس، وارتاحت الروح، وهدأ البال.. وطبنا برسول الله ﷺ، فانبجست المنابع، وتحرك الفؤاد وسالت الكلمات، فمكثتُ احبسها بإرادتي وأربيها وألوكها حيناً واهضمها حيناً آخر، لتكتمل الفكرة وتنضج، وارتاح من عناء المسير، وأطيبُ بلقاء الحبيب.. فأخذتُ بعنانِ القلم وجلستُ أخطُّ هذه الكلمات، وليس بغريب.. فإنني نهلتُ من هواء المدينة، وشربتُ من ماء زمزم.. حتى كأن الكلمات تفيضُ مني، والأحرف تتساقط عليّ والإلهام لا يكاد يفارقني، فكُل جزء في طيبة ينبئك عن فكرة، وكل واحاتها تعطيك الكلمات.. فهناك أحد، جبلٌ يحبنا ونحبه، وهناك قباء مسجد أُسِس على التقوى، وفي كل زاوية من زواياه هناك قصة بطولة، وقصة تاريخ.. فكيفُ لا نحبها..

انتهت الرحلة، لأعود إلى مكتبتي وفي جعبتي الكلمات، وفي قلبي لوعة الفراق.. لأكتبها هنا، وروحي هناك، ولسوف أعود يوماً لأنهل منها مجدداً فاللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وارزقنا شفاعته ورفقته في الفردوس الأعلى.